فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله عز وجل: {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل} يعني أخذنا العهود عليهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها من التوحيد والعمل بما أمرناهم به والانتهاء عما نهيناهم عنه {وأرسلنا إليهم رسلًا} يعني لبيان الشرائع والأحكام {كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم} يعني بما يخالف أهواءهم ويضاد شهواتهم من ميثاق التكليف والعمل بالشرائع {فريقًا كذبوا} يعني من الرسل الذين جاءتهم {وفريقًا يقتلون} يعني من الرسل وكان فيمن كذبوا عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وكان فيمن قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام وإنما فعلوا ذلك نقضًا للميثاق وجراءة على الله عز وجل ومخالفة لأمره. اهـ.

.قال أبو السعود:

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسراءيل} كلام مبتدأٌ مَسوق لبيان بعضٍ آخرَ من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة. {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} ذوي عددٍ كثير وأولي شأنٍ خطير ليقرِّروهم على مراعاة حقوق الميثاق ويُطْلعوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم ويتعهدوهم بالعظة والتذكير، وقوله تعالى: {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} جملة شرطيةٌ مستأنَفةٌ وقعت جوابًا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل، وجواب الشرط محذوف، كأنه قيل: فما فعلوا بالرسل؟ فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تُحبه أنفسُهم المنهمكةُ في الغيِّ والفساد من الأحكام الحَقّة والشرائعِ عَصَوْه وعادَوْه، وقوله تعالى: {فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} جواب مستأنَفٌ عن استفسار كيفية ما أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة الإجمال كأنه قيل: كيف فعلوا بهم؟ فقيل: فريقًا منهم كذبوهم من غير أن يتعرضوا لهم بشيء آخرَ من المَضارِّ وفريقًا آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم أيضًا، وإنما أُوثر عليه صيغة المضارع على حكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها الهائلة للتعجيب منها وللتنبيه على أن ذلك دَيْدنُهم المستمرُّ، وللمحافظة على رؤوس الآي الكريمة، وتقديم فريقًا في الموضعين للاهتمام به وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر هذا، وأما جعلُ الشرطية صفةً لـ {رسلًا} كما ذهب إليه الجمهور فلا يساعده المقام أصلًا ضرورةَ أن الجملة الخبرية إذا جُعلتْ صفةً أو صلةً يُنسخ ما فيها من الحكم وتُجعل عنوانًا للموصوف تتمةً له في إثباتِ أمرٍ آخَرَ له ولذلك يجب أن يكون الوصفُ معلومَ الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعله وصفًا له، ومن هاهنا قالوا: إن الصفاتِ قبل العلم بها أخبارٌ، والأخبارُ بعد العلم بها أوصافٌ، ولا ريب في أن ما سبق له النظم إنما هو بيانُ أنهم جعلوا كل من جاءهم من رسل الله تعالى عُرضةً للقتل أو التكذيب حسبما يفيده جعلُها استئنافًا على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، لا بيانُ أنه تعالى أرسل إليهم رسلًا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلِها صفةً. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَقَدْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إسرائيل} كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم، وجعله بعضهم متعلقًا بما افتتح الله تعالى به السورة، وهو قوله سبحانه: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] ولا يخفى بعده.
والمراد بالميثاق المأخوذ العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم عليهم في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما يأتي ويذر، أو في التوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة.
{وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} ذوي عدد كثير وأولي شأن خطير، يعرفونهم ذلك.
ويتعهدونهم بالعظة والتذكير ويطلعونهم على ما يأتون ويذرون في دينهم.
{كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} أي بما لا تميل إليه من الشرائع ومشاق التكاليف، والتعبير بذلك دون بما تكرهه أنفسهم للمبالغة في ذمهم، وكلمة {كُلَّمَا} كما قال أبو حيان: منصوبة على الظرفية لإضافتها إلى «ما» المصدرية الظرفية وليست كلمة شرط، وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول، ووجه ذلك السفاقسي بأن تسميتها شرطًا لاقتضائها جوابًا كالشرط الغير الجازم فهي مثل إذا ولا بعد فيه، وجوابها كما قيل قوله تعالى: {فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}.
وقيل: الجواب محذوف دل عليه المذكور، وقدره ابن المنير استكبروا لظهور ذلك في قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم استكبرتم فَفَرِيقًا} [البقرة: 87] الخ، والبعض ناصبوه لأنه أدخل في التوبيخ على ما قابلوا به مجيء الرسول الهادي لهم، وأنسب بما وقع في التفصيل مستقبحًا غاية الاستقباح، وهو القتل على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، فإن الاستكبار إنما يفضى إليه بواسطة المناصبة، وأما في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار نظرًا إليه في نفسه لاقتضاء المقام، وادعى بعضهم أن في الإتيان بالفاء في آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة كأنه قيل: استكبرتم فناصبتم فـ {فريقًا} الخ، وفيه نظر، والجملة حينئذ استئناف لبيان الجواب، وجعل الزمخشري هذا القول متعينًا لأن الكلام تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل، أي كلما جاءهم رسول من الرسل والمذكور بقوله سبحانه: {فَرِيقًا كَذَّبُواْ} الخ يقتضي أن الجائي في كل مرة فريقان فبينهما تدافع، وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لا يحسن في مثل هذا المقام تقديم المفعول مثل إن أكرمت أخي، أخاك أكرمت لأنه يشعر بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع في المفعول، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل، ولأن تقديم المفعول على ما قيل: يوجب الفاء إما لجعله الفعل بعيدًا عن المؤثر فيحوجه إلى رابط، وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفتقرة إلى الفاء، وقيل: فيه مانع آخر لأن المعنى على أنهم كلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لا كلاهما، فلو كان جوابًا لكان الظاهر أو بدل الواو، ومن جعل الجملة جوابًا لم ينظر إلى هذه الموانع، قال بعض المحققين: أما الأول: فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق، وقيل: المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير؛ ويؤيده {كُلَّمَا} الدالة على الكثرة، وأما الثاني: فلأنه لا يقتضي قواعد العربية مثله، وما ذكر من الوجوه أوهام لا يلتفت إليها، ولا يوجد مثله في كتب النحو، ومنه يعلم دفع الأخير، وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر الغفلة عن مثل هذا، وقد قال في «شرح التسهيل» ويجوز أن ينطلق خيرًا يصب خلافًا للفراء فقال شراحه: أجاز سيبويه والكسائي تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه، وأنشد الكسائي:
وللخير أيام فمن يصطبر لها ** ويعرف لها أيامها الخير يعقب

تقديره يعقب الخير، ومنع ذلك الفراء مع بقاء الجزم، وقال: بل يجب الرفع على التقديم والتأخير أو على إضمار الفاء، وتأول البيت بأن الخير صفة للأيام، كأنه قال: أيامها الصالحة.
واختار ابن مالك هذا المذهب في بعض كتبه، ولما رأى الزمخشري اشتراك المانع بين الشرط الجازم وما في معناه مال إليه خصوصًا، وقول المعنى تقتضيه فهو الحق انتهى.
والجملة الشرطية صفة {رُسُلًا} والرابط محذوف أي رسول منهم، وإلى هذا ذهب جمهور المعربين.
واختار مولانا شيخ الإسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة وقعت جوابًا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق إرسال الرسل كأنه قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟ فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم المنهمكة في الغي والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه، واعترض رحمه الله تعالى على ما ذهب إليه الجمهور من القول بالوصفية بأنه لا يساعده المقام لأن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم، ويجعل عنوانًا للموصوف وتتمة له، ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب له، ومن هنا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها إخبار والإخبار بعد العلم بها أوصاف، ولا ريب في أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسول عرضة للقتل والتكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافًا على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه أرسل إليهم رسلًا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة انتهى.
وتعقبه الشهاب بأنه تخيل لا طائل تحته، فإن قوله سبحانه: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسرائيل} الخ مسوق لبيان جناياتهم والنعي عليهم بذلك كما اعترف به المعترض وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة التي هي مرمى النظر كما في سائر القيود، وأما كونها معلومة فلا ضير فيه فإنك إذا وبخت شخصًا، وقلت له: فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل لا يضر ذلك في تقريعه وتعييره بل هو أقوى كما لا يخفى على الخبير بأساليب الكلام، فلا تلتفت إلى مثل هذه الأوهام انتهى، ولا يخفى ما في قوله، وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة الخ من المنع الظاهر، وكذا جعل ما نحن فيه نظير قولك لشخص تريد توبيخه فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل فيه خفاء، والذي يحكم به الإنصاف بعد التأمل جواز الأمرين، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى فتأمل وأنصف.
والتعبير بيقتلون مع أن الظاهر قتلوا ككذبوا لاستحضار الحال الماضية من أسلافهم للتعجيب منها ولم يقصد ذلك في التكذيب لمزيد الاهتمام بالقتل، وفي ذلك أيضًا رعاية الفواصل، وعلل بعضهم التعبير بصيغة المضارع فيه، بالتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر فهم بعد يحومون حول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتصر البعض على قصد حكاية الحال لقرينة ضمائر الغيبة، وتقدم {فَرِيقًا} في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}.
استئناف عاد به الكلام على أحوال اليهود وجراءتهم على الله وعلى رسله.
وذلك تعريض باليأس من هديهم بما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم وبأنّ ما قابلوا به دعوته ليس بدعًا منهم بل ذلك دأبهم جيلًا بعد جيل.
وقد تقدّم الكلام على أخذ الميثاق على اليهود غير مرّة.
أُولاها في سورة البقرة (83).
والرسل الّذين أرسلوا إليهم هم موسى وهارون ومن جاء بعدهما مثل يوشع بن نون وأشعيا وأرْميا وحزقيال وداوود وعيسى.
فالمراد بالرّسل هنا الأنبياء: من جاء منهم بشرع وكتاب، مثل موسى وداوود وعيسى، ومن جاء معزّزًا للشّرع مبيّنا له، مثل يوشع وأشعيا وأرميا.
وإطلاق الرّسول على النّبيء الّذي لم يجىء بشريعة إطلاق شائع في القرآن كما تقدّم، لأنّه لمَّا ذكر أنّهم قَتَلوا فريقًا من الرسل تعيَّن تأويل الرسل بالأنبياء فإنّهم ما قتلوا إلاّ أنبياء لا رسلًا.
وقوله: {كلّما جاءهم رسول بما لا تهوَى أنفسهم فريقًا كذّبوا} إلخ انتصب {كلّما} على الظرفيّة، لأنّه دالّ على استغراق أزمنة مَجيء الرسل إليهم فيدلّ على استغراق الرسل تبعًا لاستغراق أزمنة مجيئهم، إذْ استغراق أزمنة وجود شَيْء يستلزم استغراق أفراد ذلك الشيء، فما ظرفية مصدريّة دالّة على الزّمان.
وانتصب «كلَّ» على النّيابة عن الزّمان لإضافته إلى اسم الزّمان المبهم، وهو «ما» الظرفية المصدرية.
والتقدير: في كلّ أوقات مجيء الرّسل إليهم كَذّبوا ويَقتلون.
وانتصب {كلَّما} بالفعلين وهو {كَذّبوا} و{يَقْتلون} على التّنازع.
وتقديم {كلّما} على العامل استعمال شائع لا يكاد يتخلّف، لأنّهم يريدون بتقديمه الاهتمام به، ليظهر أنّه هو محلّ الغرض المسوقة له جملتهُ، فإنّ استمرار صنيعهم ذلك مع جميع الرّسل في جميع الأوقات دليل على أنّ التّكذيب والقتل صارا سجيتين لهم لا تتخلّفان، إذ لم ينظروا إلى حال رسول دون آخر ولا إلى زمان دون آخر، وذلك أظهر في فظاعة حالهم، وهي المقصود هنا.
وبهذا التّقديم يُشرَبُ ظرف {كلّما} معنى الشرطية فيصير العامل فيه بمنزلة الجواب له، كما تصير أسماء الشّرط متقدّمة على أفعالها وأجوبتها في نحو {أينما تكونوا يدرككم الموت} [النساء: 78].
إلاّ أنّ {كُلّما} لم يسمع الجزم بعدها ولذلك لم تعدّ في أسماء الشرط لأنّ «كلّ» بعيد عن معنى الشرطية.